وكما يُقال لدينا في الأمثال فإن المصائب لا تأتي فُرادى، فمع المشاكل الكثيرة التي تشهدها الشبكة العنكبوتية في الآونة الآخيرة من تصاعد وطأة الهجمات الإلكترونية والانتشار الرهيب لفيروسات الفدية على الشبكة بالإضافة إلى التضييق على بعض خدمات الإنترنت مثل خدمة التورنت وغيرها، لم يكن ذلك كافيًا لمستخدمي الشبكة حتى تُسقِطهم الضربة القاضية وهي إلغاء قانون حيادية الإنترنت Net Neutrality والذي أصبح بمثابة الكابوس الذي يراود مستخدمي الإنترنت الذين أصبح يمثل لهم الإنترنت شيئًا لا يمكن الاستغناء عنه، فتخيل معي أنك سوف تحتاج إلى دفع أموال إضافية لكي يُسمح لك بالدخول إلى موقع ما على الإنترنت وأن أهم الخدمات التي تستخدمها حاليًا وتتمتع بها بدون أي مقابل سوف يتم حجبك من استخدامها لاحقًا.
** تحدثنا معًا في مقالات سابقة عن حول الصراع بين المؤسسات والدول العظمى والتي تسعى للسيطرة المطلقة على الشبكة العنكبوتية وتعرفنا في مقال سابق عن من يسيطر على الإنترنت، وكذلك كشفنا رغبة روسيا في إنشاء إنترنت مستقل للتخلص من سيطرة أي دولة على اتصالها بالإنترنت، ولكن هذه المشاكل حاليًا أصبحت لا قيمة لها بالنسبة للمستخدم العادي في ظل وجود مشكلة أخطر عليه وهي إلغاء قانون حيادية الإنترنت والذي سوف يُعيد ترتيب وتصنيف المستخدمين على الشبكة **
ما هو قانون حيادية الإنترنت Net Neutrality؟
- يعتبر البروفيسور Tim Wu أول من صاغ مُصطلح حيادية الإنترنت، وهذا المصطلح يعني "أن مستخدمي الإنترنت في أي مكان في العالم وعبر أي مزود للخدمة يجب أن تتم معاملتهم بشكل واحد دون تفرقة بينهم من حيث طريقة الاتصال أو المنصة المستخدمة، بمعنى آخر أن كافة البيانات الموجودة على الإنترنت يجب أن تتاح للمستخدمين بشكل حيادي دون أي تمييز أو تفرقة".
- وببساطة فإن مبدأ حيادية الإنترنت يقضي بمنع الحكومات والشركات المزودة للخدمة من التلاعب في سرعة الاتصال بين مختلف المواقع مثل زيادة سرعة الإنترنت لصالح موقع معين وإبطائها في موقع آخر بالإضافة إلى منعها من حجب أي محتوى يتم تقديمه على الإنترنت.
- ولكي تستوعب الأمر بشكل أفضل سأضرب مثالاً بسيطًا، أنت الآن تتصفح الإنترنت بكل سهولة تستطيع أن تنتقل من فيسبوك إلى يوتيوب ومنهم إلى تويتر.. إلخ ولكن ماذا إذا أقدمت على تصفح الإنترنت وعند دخولك أحد المواقع ظهرت لك رسالة من مزود الخدمة الخاصة بك يُخبرك بأنك لا تستطيع دخول هذا الموقع لأنه ليس في قائمة اشتراكك!
- أي أن الأمر أصبح شبيه بالباقات الخاصة بالإنترنت على الهواتف المحمولة مثل باقة السوشيال والتي تمنحك قدر معين من البيانات للاتصال بمواقع محدودة فقط، تخيل معي أن يتم تقسيم المواقع على الإنترنت إلى فئات وكل فئة تحتاج أن تدفع ثمن اشتراكها لكي تستطيع الدخول إليها واستخدامها كما كنت تستطيع استخدامها في الماضي بشكل مجاني.
تاريخ قانون حيادية الإنترنت Net Neutrality
- بدايةً منذ عام 2005م تقريبًا وتسعى شركات الاتصالات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير شكل الإنترنت كما عرفناه عبر التحكم في سرعة مسارات الاتصال بالإنترنت وتقسيمها إلى مسارات سريعة ومسارات بطيئة وهنا ستضطر أبرز المواقع والخدمات على الإنترنت من دفع أموال لشركات الإتصالات لكي تضمن وجودها ضمن نطاق الاتصالات السريعة وبالتالي تتفوق على منافسيها، وسيؤدي هذا الأمر كذلك إلى تصنيف المحتوى على الإنترنت حسب ما يدفعه المستخدم العادي لمزود الخدمة.
- وسعت هذه الشركات طوال هذه المدة للتأثير على حيادية الإنترنت عبر تقديم الكثير من المقترحات إلى الهيئة الفدرالية لتنظيم الاتصالات FCC لتغيير تصنيف الخدمة وآخرها محاولة تمرير قانون في عام 2015م يسمح لهذه الشركات بفرض التصفح المدفوع للإنترنت حيث يتوجب عليك دفع رسوم أخرى غير اشتراك الخدمة للوصول إلى تلك المواقع.
- ومع فشل تمرير هذا المقترح نتيجة المواجهة الشرسة من قِبل المؤسسات والجماعات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني والنشطاء الذين اعتبروا أن في هذا المشروع خرق واضح لحيادية الإنترنت وسيؤدي إلى ضرر بالغ بالمستخدمين من متوسطي الدخل وسيخدم فقط هذه الشركات المزودة للخدمة لتحقيق أرباح أعلى.
- في ديسمبر عام 2017م نجحت شركات الاتصالات في الفوز بالمعركة وإلغاء مبدأ حيادية الإنترنت والذي قد أقره الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في نهاية ولايته وأصبحت تلك الشركات تسيطر على محتوى الإنترنت في أمريكا.
قواعد مبدأ حيادية الإنترنت Net Neutrality
1- عدم حجب المحتوى Blocking
- وفقًا لهذا المبدأ فإنه لا يحق لأي مزود للخدمة أن يقوم بحجب أي محتوى على الإنترنت، وهنا نقصد أي محتوى حتى المحتوى الغير قانوني مثل مواقع التورنت على سبيل المثال، وهناك قضية مشهورة ضد شركة Comcast بسبب تعمدها إبطاء خدمة BitTorrent رغم أنها خدمة غير قانونية في الولايات المتحدة الأمريكية.2- عدم التلاعب في سرعة الإنترنت Throttling
- كما ذكرنا في فقرة سابقة فإن هذه القاعدة لا تعني السرعات المُقدمة للمستخدمين فهي تختلف حسب الاشتراك الخاص بهم، ولكن هذه القاعدة تعني عدم قيام مزودي الخدمة بالتلاعب في سرعة مواقع وخدمات على الإنترنت عن عمد مقابل الحصول على مبالغ لصالح بعض الشركات بهدف تحسين خدمتها والإضرار بالخدمة المنافسة.
3- عدم وجود أولوية بين المستخدمين Paid Prioritization
- أي عدم تمييز مزودوا الخدمات للشركات المقدمة للمحتوى الذين يستطيعون دفع أموال للمزود مقابل حصولهم على خدمات أفضل وأسرع من الخدمات المنافسة.
ما معنى إلغاء حيادية الإنترنت؟
- إلغاء مبدأ حيادية الإنترنت سيشكل كارثة كبرى على الشبكة العنكبوتية، وبالرغم من أن هذا الأمر يحدث في الولايات المتحدة فقط، إلا أنه سينتقل بلا شك إلى الدول الأخرى شيئًا فشيئًا حتى يصبح أمرًا طبيعيًا، بالإضافة إلى أنه وبلا جدال فالولايات المتحدة تسيطر على معظم الشبكة وأبرز الخدمات على الإنترنت توجد في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن الأضرار المتوقع أن يسببها هذا الأمر ستكون كبيرة وسنتعرف على أبرزها في السطور التالية.1- التحكم في المحتوى
- هذا القانون سيعطي لمزود الخدمة القدرة على التحكم في المحتوى الذي تشاهده، وأبرز ضرر لذلك هو خنق الأصوات والقنوات المعارضة في أي مجال عبر حجب المواقع المعارضة أو التلاعب في الاتصالات الخاصة بهم وإبطائها بحيث يكون هناك صعوبة في الوصول إليها أو حتى حجبها من البلد بشكل كامل.
2- توجيه المستخدمين
- من أسوء الأمور التي سوف يُستخدم فيها هذا الأمر توجيه مستخدمي الشبكة إلى اتجاه معين والتأثير على توجه وفكر المستخدمين عبر التحكم في حركة البيانات الخاصة بموقع معين والتلاعب بها بحيث يتم توجيه المستخدمين إلى موقع معينة، وقس على ذلك الحركات والتوجهات السياسية والمواقع المعارضة والإخبارية وغيرها.
3- فرض رسوم إضافية
- من الأضرار البالغة التي سيسببها هذا الأمر هو قيام الشركات المزودة للإنترنت بفرض رسوم إضافية على المواقع على الإنترنت، بحيث يجب عليك دفع اشتراكات إضافية للوصول إلى بعض المواقع على الإنترنت، وهذا سوف يُقيد بشكل كبير من حركة المستخدمين التي عرفنها على الشبكة وسيؤدي إلى انخفاض المستخدمين بشكل تدريجي.
4- التأثير على المشروعات الصغيرة
- إذا نظرنا للشركات والمواقع العملاقة كفيسبوك ويوتيوب وغيرها فإن هذه المواقع يمكن أن تتكيف مع مثل هذا الأمر، فهي تستطيع تحمل أي تكلفة قد تضطر لدفعها من أجل عدم تأثر النشاط الخاص بها، ولكن ماذا عن المواقع والشركات الناشئة التي لن تستطيع دفع هذه التكلفة والتي كانت ستعتمد على الإنترنت من أجل نموها وتصاعد نشاطها الاقتصادي.
** الخاتمة **
- طبعًا بعدما تعرفنا معكم على هذه الكارثة التي تهدد الشبكة العنكبوتية والتي أصبحت عالم افتراضي يعيش بداخله ملايين الأشخاص حول العالم هربًا من قسوة العالم الواقعي، فإنني سأحاول أن أختم المقال بخاتمة متفائلة، فبالرغم من عدم وجود أي شئ في أيدينا نقوم به لمنع هذا الأمر وبالرغم من أن الدول العربية سوف تكون من أوائل الدول التي ستطبق هذا الأمر اتساقًا مع الحكومات الديكتاتورية التي تسعى لسلب المواطن حريته وأمواله، يبقى لنا أمل أخير في النشطاء والحقوقيين داخل الولايات المتحدة وبعض الأشخاص في مراكز السلطة والذين يعارضون هذا إلغاء حيادية الإنترنت وعلى رأسهم Eric Schneiderman المدّعي العام لولاية نيويورك، والذين سوف يسعون إلى إيقاف هذا الأمر وذلك عبر مجلس الشيوخ الأمريكي Congress والذي يملك السلطة لإلغاء هذا القرار وإعادة مبدأ حيادية الإنترنت للعمل مجددًا.